فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقِيلَ يا أرض ابلعي مَاءَكِ وياسماء أَقْلِعِي}
هذا مجاز لأنها موات.
وقيل: جعل فيها ما تُميّز به.
والذي قال إنه مجاز قال: لو فُتِّش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة رصفِها، واشتمال المعاني فيها.
وفي الأثر: إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر في عام أو عامين، وأنه ما نزل من السماء ماء قطّ إلا بحفظ مَلك موكّل به إلا ما كان من ماء الطوفان؛ فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملَك.
وذلك قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} [الحاقة: 11] فجرت بهم السفينة إلى أن تناهي الأمر؛ فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك، وأمر الله الأرض بالابتلاع.
يقال: بلَع الماء يبلَعه مثل منع يمنع وبَلِع يبلَع مثل حمِد يحمَد؛ لغتان حكاهما الكسائيّ والفرّاء.
والبالُوعة الموضع الذي يشرب الماء.
قال ابن العربي: التقى الماءان على أمر قد قدر، ما كان في الأرض وما نزل من السماء؛ فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع، فلم تمتصّ الأرض منه قطرة، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط.
وذلك قوله تعالى: {وَقِيلَ يا أرض ابلعي مَاءَكِ وياسماء أَقْلِعِي وَغِيضَ الماء} وقيل: ميّز الله بين الماءين، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته، وصار ماء السماء بحارًا.
قوله تعالى: {وَغِيضَ الماء} أي نقص؛ يقال: غاض الشيءُ وغِضته أنا؛ كما يقال: نَقَص بنفسه ونَقَصه غيره، ويجوز {غيض} بضم الغين.
{وَقُضِيَ الأمر} أي أحكم وفرغ منه؛ يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام.
ويقال: إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يكن فيمن هلك صغير.
والصحيح أنه أهلك الوِلدان بِالطّوفان، كما هلكت الطير والسباع، ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير، بل ماتوا بآجالهم.
وحكي أنه لما كثر الماء في السّكك خشيت أمّ صبيّ عليه؛ وكانت تحبه حبًا شديدًا، فخرجت به إلى الجبل، حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء استوت على الجبل؛ فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء؛ فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أمّ الصبي.
قوله تعالى: {واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظالمين} أي هلاكًا لهم.
الجُوديّ جبل بقرب الْمَوْصل؛ استوت عليه في العاشر من المحرّم يوم عاشوراء؛ فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه، شكرًا لله تعالى؛ وقد تقدّم هذا المعنى.
وقيل: كان ذلك يوم الجمعة.
وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت، وبقي الجُوديّ لم يتطاول تواضعًا لله، فاستوت السّفينة عليه: وبقيت عليه أعوادها.
وفي الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة».
وقال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق؛ فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعًا، وتطامن الجوديّ، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق، ورست السفينة عليه.
وقد قيل: إن الجوديّ اسم لكل جبل؛ ومنه قول زيد بن عمرو بن نُفَيل:
سُبحانه ثُمّ سُبحانًا يَعودُ لَه ** وقَبْلَنا سَبَّحَ الجُوديُّ والجَمَدُ

ويقال: إن الجُوديّ من جبال الجنة؛ فلهذا استوت عليه.
ويقال: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجوديّ بنوح، وطور سيناء بموسى، وحِراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
مسألة:
لما تواضع الجوديّ وخضع عزَّ، ولما ارتفع غيره واستعلى ذَلّ، وهذه سُنّة الله في خلقه، يرفع من تخشّع، ويضع من ترفّع؛ ولقد أحسن القائل:
وإذا تذلّلتِ الرّقابُ تَخشُّعًا ** مِنّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها

وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: كانت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تُسمَّى العَضْباء؛ وكانت لا تُسبق؛ فجاء أعرابيّ على قعودٍ له فسبقها، فاشتدّ ذلك على المسلمين؛ وقالوا: سُبِقت العضباء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن حقّا على الله ألا يَرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه».
وخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نَقَصت صدقةٌ من مالٍ وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله». وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يَبغِي أحد على أحد ولا يَفخر أحد على أحد». خرجه البخاريّ.
مسألة:
نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة.
ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن: أن نوحًا أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض؛ فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14].
وكان قد: كثرت فيهم المعاصي، وكثرت الجبابرة {وعَتَوْا عُتُوًّا كبيرًا}، وكان نوح يدعوهم ليلًا ونهارًا، سرًّا وعلانية، وكان صبورًا حليمًا، ولم يلق أحد من الأنبياء أشدّ مما لقي نوح؛ فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك وقيدا، ويضربونه في المجالس ويطرد؛ وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول: {رَبِّ اغفر لِقَوْميِ فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فكان لا يزيدهم ذلك إلا فرارًا منه، حتى أنه ليكلم الرجل منهم فيلفّ رأسه بثوبه، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئًا من كلامه، فذلك قوله تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7]. وقال مجاهد وعُبيد بن عمير: كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفَاق قال: {رَبِّ اغفر لِقَوْميِ فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
وقال ابن عباس: إن نوحًا كان يضرب ثم يُلفّ في لِبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم؛ حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا؛ فقال: يا بُنيّ انظر هذا الشيخ لا يغرّنك، قال: يا أبت أمكنّي من العصا، (فأمكنه) فأخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة مُوضِحة في رأسه، وسالت الدماء؛ فقال نوح: ربّ قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبّرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن؛ قال: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}؛ أي لا تحزن عليهم.
{واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] قال: يا رب وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر.
قال: فَغرس السّاج عشرين سنة، وكفّ عن الدعاء، وكفّوا عن الاستهزاء، وكانوا يسخرون منه؛ فلما أدرك الشجرُ أمره ربه فقطعها وجفّفها: فقال: يا رب كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: اجعله على ثلاثة صور؛ رأسه كرأس الدّيك، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير، وذنَبه كذنَب الديك؛ واجعلها مطبقة واجعل لها أبوابًا في جنبها، وشدّها بدُسُرٍ، يعني مسامير الحديد.
وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة، وجعلت يده لا تخطئ.
قال ابن عباس: كانت دار نوح عليه السلام دمشق، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأوّل، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، وأطبق عليهما، وجعل أولاد آدم أربعين رجلًا وأربعين امرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم، وجعل الذّر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدوابّ.
قال الزُّهريّ: إن الله عز وجل بعث ريحًا فحمل إليه من كل زوجين اثنين؛ من السباع والطير والوحش والبهائم.
وقال جعفر بن محمد: بعث الله جبريل فحشرهم، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى، فيدخله السفينة.
وقال زيد بن ثابت: استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة، فدفعها بيده في ذنبها؛ فمن ثَم انكسر ذنبها فصار مَعْقوفًا وبدا حَياؤها.
ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياؤها؛ قال إسحق: أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحًا حمل أهل السفينة، وجعل فيها من كل زوجين اثنين، وحمل من الهدهد زوجين، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض، فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانًا، فلم يجد طينًا ولا ترابًا، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبرًا فدفنها فيه، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر؛ فلذلك نتأت أقفية الهداهد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة».
وذكر صاحب كتاب العروس وغيره: أن نوحًا عليه السلام لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الزّجاج: أنا؛ فأخذها وختم على جناحها وقال لها: أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدًا، أنت ينتفع بك أمتي؛ فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه، ولذلك يقتل في (الحل) والحَرَم ودعا عليه بالخوف؛ فلذلك لا يألف البيوت.
وبعث الحمامة فلم تجد قرارًا فوقعت على شجرة بأرض سيناء فحملت ورقة زيتونة، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء، فاختضبت رجلاها، ثم جاءت إلى نوح عليه السلام فقالت: بشراي منكَ أن تهب لي الطوق في عنقي، والخِضاب في رجلي، وأسكنُ الحرَمَ؛ فمسح يده على عنقها وطوقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة. وذكر الثعلبيّ أنه بعث بعد الغراب التُّدْرُج وكان من جنس الدّجاج؛ وقال: إياك أن تعتذر، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع، وأخذ أولاده عنده رهنًا إلى يوم القيامة. اهـ.

.قال الخازن:

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ}
{وقيل} يعني بعد ما تناهى الطوفان وأغرق الله قوم نوح: {يا أرض ابلعي ماءك} أي اشربيه: {ويا سماء أقلعي} أي أمسكي: {وغيض الماء} أي نقص ونضب يقال غاض الماء إذا نقص وذهب: {وقضي الأمر} يعني وفرغ من الأمر وهو هلاك قوم نوح: {واستوت} يعني واستقرت السفينة: {على الجودي} وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل: {وقيل بعدًا} يعني هلاكًا: {للقوم الظالمين} قال العلماء: بالسير لما استقرت السفينة بعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع إليه فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوح أن الماء قد ذهب فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت وطوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت وروي أن نوحًا عليه السلام ركب السفينة لعشر بقين من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرت بالبيت الحرام وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه فطافت السفينة به سبعًا وأودع الحجر الأسود جبل أبي قبيس وهبط نوح ومن معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح عليه السلام وأمر جميع من معه بصيامه شكرًا لله تعالى وبنوا قرية بقرب الجبل فسميت سوق ثمانين فهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان، وقيل: إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق وكان المال يصل إلى حجزته وسبب نجاته من الهلاك أن نوحًا عليه السلام احتاج إلى خشب ساج لأجل السفينة فلم يمكنه نقله فحمله عوج بن عنق من الشام إلى نوح فنجاه الله من الغرق لذلك.
فإن قلت: كيف اقتضت الحكمة الإلهية والكرم العظيم إغراق من لم يبلغوا الحلم من الأطفال ولم يدخلوا تحت التكليف بذنوب غيرهم.
قلت: ذكر بعض المفسرين أن الله أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فلم يولد لهم ولد تلك المدة وهذا الجواب ليس بقوي لأنه يرد عليه إغراق جميع الدواب والهوام والطير وغير ذلك من الحيوان ويرد على ذلك أيضًا إهلاك أطفال الأمم الكافرة مع آبائهم غير قوم نوح.
والجواب الشافي عن هذا كله أن الله سبحانه وتعالى متصرف في خلقه وهو المالك المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ}
البلع: معروف، والفعل منه بلع بكسر اللام وبفتحها لغتان حكاهما الكسائي والفراء، يبلع بلعًا، والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء.
الإقلاع: الإمساك، يقال: أقلع المطر، وأقلعت الحمى، أي أمسكت عن المحموم.
وقيل: أقلع عن الشيء تركه، وهو قريب من الإمساك.
غاض الماء نقص في نفسه، وغضته نقصته، جاء لازمًا ومتعديًا.
الجودي: علم لجبل بالموصل، ومن قال بالجزيرة أو بآمد، فلأنهما قريبان من الموصل.
وقيل الجودي: اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل:
سبحانه ثم سبحانا نعوذ له ** وقبلنا سبح الجودي والجمد

{وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدًا للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين}: قال الزمخشري: نادى الأرض والسماء بما ينادي به الإنسان المميز على لفظ التخصيص، والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله: يا أرض ويا سماء، ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله: ابلعي ماءك وأقلعي، من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأنّ السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء، غير ممتنعة عليه كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوا عظمته وجلاله وثوابه وعقابه، وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه ويفرعون من التوقف دون الامتثال له والنزول عن مشيئته على الفور من غير ريب.
فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولًا لا حبس ولا بطء.
وبسط الزمخشري وذيل في هذا الكلام الحسن، قال الحسن: يدل على عظمة هذه الأجسام، والحق تعالى مستول عليها متصرف فيها كيف يشاء، وأراد فصار ذلك سببًا لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلوّ قدرته وهيبته انتهى.
وبناء الفعل في وقيل وما بعدها للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت وأخصر.
قال الزمخشري: ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا يكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأن فاعل هذه الأفعال فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة عل الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره.
ولما ذكرنا من المعاني والنكت واستفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم، لا لتجانس الكلمتين وهما قوله: ابلعي واقلعي، وذلك وان كان الكلام لا يخلو من حسن، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب، وما عداها قشور انتهى.
وأكثره خطابة، وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية، وعلى هذا جمهور الحذاق.
وقيل: إن الله تعالى أحدث فيهما إدراكًا وفهمًا لمعاني الخطاب.
وروي أن أعرابيًا سمع هذه الآية فقال: هذا كلام القادرين، وعارض ابن المقفع القرآن فلما وصل إلى هذه الآية أمسك عن المعارضة وقال: هذا كلام لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله.
وقال ابن عباس في قوله: وقضي الأمر، غرق من غرق، ونجا من نجا.
وقال مجاهد: قضي الأمر بهلاكهم، وقال ابن قتيبة، قضي الأمر فرغ منه، وقال ابن الأنباري: أحكمت هلكة قوم نوح، وقال الزمخشري: أنجز ما وعد الله نوحًا من هلاك قومه.
واستوت أي استقرت السفينة على الجودي، واستقرارها يوم عاشوراء من المحرّم قاله: ابن عباس، والضحاك.
وقيل: يوم الجمعة، وقيل: في ذي الحجة.
وأقامت على الجودي شهرًا، وهبط بهم يوم عاشوراء.
وذكروا أن الجبال تطاولت وتخاشع الجودي.
وحديث بعث نوح عليه السلام الغراب والحمامة ليأتياه بخبر كمال الغرق الله أعلم بما كان من ذلك.
وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة على الجودي بسكون الياء مخففة.
قال ابن عطية: وهما لغتان، وقال صاحب اللوامح: هو تخفيف ياءي النسب، وهذا التخفيف بابه الشعر لشذوذه، والظاهر أن قوله: وقيل بعدًا من قول الله تعالى كالأفعال السابقة، وبنى الجميع للمفعول للعلم بالفاعل، وقيل: من قول نوح والمؤمنين، قيل: ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، قيل: ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن بلوغ الأمر ذلك المبلغ وإن لم يكن، ثم قول محسوس.
ومعنى بعد هلاكًا يقال: بعد يبعد بعدًا وبعدًا إذا هلك، واللام في للقوم من صلة المصدر.
وقيل: تتعلق بقوله: وقيل، والتقدير وقيل لأجل الظالمين، إذ لا يمكن أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز. اهـ.